فصل: مطلب لا يستفاد من هذه الآية ترك الأمر بالمعروف وكيفية استماع الشّهود على وصية الميت وسبب نزول هذه الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب لا يستفاد من هذه الآية ترك الأمر بالمعروف وكيفية استماع الشّهود على وصية الميت وسبب نزول هذه الآية:

قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فالزموها وأصلحوها واحفظوها من الوقوع فيما لا يحل، واعملوا لخلاصها من عذاب اللّه وما يقربها منه وباعدوها عن الحرام، ولا تركنوا إلى الظّلم فتمسكم النّار، فإذا تقيدتم بهذا وفعلتموه فاعلموا أنه {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إلى ذلك وتمسكتم به وقمتم بالحق، لأن عصيان الباغي وكفر الطّاغى لا يضركم، وإنما يعود ضرره عليه إذا نصحتموه ولم يقبل نصحكم ولم يسترشد بإرشادكم، ولم يؤمن كإيمانكم وهؤلاء ان كانوا كافرين مشركين فاقسروهم على الإيمان إذ لا دين لهم، وان لم يقبلوا فاقتلوهم، وان كانوا كتابيين فاضربوا عليهم الجزية واتركوهم وشأنهم لأنكم لم تؤمروا بقتالهم على الإسلام.
قال تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} الآية 257 من البقرة راجع تفسيرها تعلم أن دين الإسلام قام بالعدل لا بالإكراه، وبالرغبة لا بالرهبة، ولهذا فإن حضرة الرّسول لم يجبر أحدا من أهل الكتابين على الإيمان به، هذا وليعلم أن المطيع من هذه الأمة لا يؤخذ بذنب العاصي، كما لا ينتفع العاصي بطاعة المطيع، وان المؤمن لا يؤخذ بذنب الكافر، والكافر لا ينتفع بإيمان المؤمن، راجع الآية 10 من سورة التحريم المارة.
قال سعيد بن جبير نزلت هذه الآية في أهل الكتاب أي في عدم جبرهم على الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم لأنكم وإياهم {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} في الآخرة وحينذاك {فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (105) في هذه الدّنيا.
واعلم أن هذه الآية لا يستدل فيها على عدم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كما زعم بعضهم وضرب بها المثل، لأن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ثابتان بالكتاب والسّنة ثبوتا قطعيا لا قول فيه البتة؟ أخرج الترمذي عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصّديق رضي اللّه عنه قال أيها النّاس انكم تقرءون هذه الآية {يا أَيُّهَا الَّذِينَ} إلخ ولا تضعونها موضعها ولا تدرون ما هي، واني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن النّاس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم اللّه بعقاب منه.
وأخرجه أبو داود بزيادة ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيروا إلّا يوشك أن يعمهم اللّه بعقاب.
قال ابن مسعود مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قيل منكم فإن ردّ عليكم فعليكم أنفسكم، إن القرآن نزل منه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن كقصص الأوّلين وأخبارهم، ومنه وقع تأويلهن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، ومنه أي قد وقع تأويلهن بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بيسير، كارتداد بعض العرب والحوادث التي وقعت، ومنها قتل عثمان رضي اللّه عنه، ومنه آي يقع تأويلهن آخر الزمان كأشراط السّاعة وغيرها (والأشياء المحدثة مما أشار إليها القرآن وحضرة الرّسول من البواخر والصّواعق وتقارب البلدان وكثرة القتل وغيرها) راجع الآية 8 من سورة النّحل ج 2 ومنها آي يقع تأويلهن يوم القيامة كالحساب والعقاب والنّار، فما دامت قلوبكم واحدة فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وإذا اختلفت قلوبكم وأهواءكم والبستم شيعا وأذاق بعضكم بأس بعض جاء تأويل هذه الآية ويكون على كلّ امرئ نفسه، قيل لا بن عمر لو صليت في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن اللّه يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فقال إن هذه الآية ليست لي ولأصحابي لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال ألا ليبلغ الشّاهد الغائب، فكنا نحن الشّهود وأنت الغائب، ولكنها لأقوام بعدنا ان قالوا لم يقبل منهم.
وأخرج الترمذي في حديث غريب عن أمية الشّعباني قال أتيت أبا العالية الحسني فقلت كيف نصنع بهذه الآية، قال أيّة آية؟ قلت {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} إلخ قال أما واللّه لقد سألت عنها خبيرا، سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متّبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أيّام الصّبر، فمن صبر فيهن قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم.
وفي رواية قبل يا رسول اللّه أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال لا بل أجر خمسين رجلا منكم.
راجع الآية 39 من سورة الرّوم في بحث التفرق في الدّين تجد ما يتعلق بتمام هذا البحث، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إن مما أمرتم به {شَهادَةُ بَيْنِكُمْ} أي أن يشهد ما بينكم {إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} قارب وقته بما يراه المريض من نفسه أو يرى أولياؤه فيه من علاماته وأراد أن يوصي بشيء فليشهد {حِينَ الْوَصِيَّةِ} على ما يوصي به من بعده {اثْنانِ} بالرفع خبر شهادة رجلان {ذَوا عَدْلٍ} موصوفان بالعدالة من أهل الصّلاح والتقوى والأمانة {مِنْكُمْ} من ملتكم المؤمنين، وإذا لم يوجد حين الوصية من أهل دينكم فأشهدوا من حضر من الملل الأخرى، وقدموا أهل الكتاب على غيرهم لشمول قوله تعالى: {أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من أي ملة كانوا {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ} سافرتم {فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} فإذا أدى هؤلاء الشّهود شهادتهم ور كنتم إليها فاعملوا بها، وإلّا إذا اتهمتموهم بالخيانة أيها الأولياء والورثة فلكم أن {تَحْبِسُونَهُما} توقفونها {مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} الأحسن أن تكون صلاة العصر لما جاء فيها من الأخبار، واللّفظ مطلق يدخل فيه كلّ صلاة مفروضة، لأن أل فيها للعهد، والقصد من تحليفهما بعد الصّلاة اجتماع النّاس ليشهدوا حلفهما ويتبينوا صدقهما من كذبهما، لأن الرجل قد يحلف وحده ويستنكف عن الحلف أمام النّاس خشية سوء سمعته، وكان أهل الحجاز قبلا يقعدون للخصومة بعد العصر، هذا إذا كانا مسلمين، وإذا كانا كتابيين أو من ملة أخرى يحلفون بالوقت وفي المكان الذي يعظمونه، ولهذا كانت اللام للعهد، إذ لو كانت للجنس لكان التحليف بعد مطلق صلاة وكأن لم يشهده أحد وفي شهوده فرية للتحليف، تدبر {فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ} أمام الجمع الغفير بحضور الورثة في أعظم محل معظم عندهما، فإذا كان بالمدينة مثلا يكون التحليف في مسجد رسول اللّه عند المنبر الشّريف، وإن كان في المسجد الأقصى يكون عند الصّخرة الشريفة، وإذا كان في مكة يكون بين الرّكن والمقام، وفي البلدان الأخرى في أعظم مسجد عندهم، وإن كان من الكتابيين في القدس في كنيسة القيامة، أو في بيت لحم، عند محل الولادة الشّريفة، أو في ضريح موسى عليه السّلام، أو في أعظم كنيسة أو بيعة، أو عند المبكى، وكذلك إذا كانا كافرين ففي أعظم محل يعظمونه وبحضور علمائهم وقسوسهم ورهبانهم وحاخامهم ورؤساهم، وهذا التحليف لا يكون إلا {إِنِ ارْتَبْتُمْ} في صدقهما وظننتم الكذب في شهادتهما ويكون اليمين باللّه تعالى وحده، ويجوز أن يشدد الحلف بشيء من صفاته الجليلة، وإذا كانا كتابيين جاز توثيق حلفهما بالتوراة والإنجيل، أما الكفار فباللّه فقط، لأن ما يعظمونه لا قيمة له عند اللّه، سواء كان إنسانا أو حيوانا أو كوكبا أو جمادا لأنها كلها أوثان لا يجوز تعظيمها بالحلف ولا بغيره، وتعظيم الزمان هنا مثل كونه بعد العصر مما يكثر فيه الجماعة، وفي المكان مثل الجوامع والبيوت المعدة لذكر اللّه عند أهل الأديان والصّيغة بأن يقول واللّه العظيم المنتقم الجبار الذي أنزل القرآن على محمد، أو التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، أنّا نقول الحق ونشهد به {لا نَشْتَرِي بِهِ} أي اليمين الذي هو عهد اللّه الذي أقسمنا به {ثَمَنًا} عوضا بشيء من حطام الدّنيا، ولا نحلف كاذبين باللّه لأجل عوض نأخذه، أو غرض نقصده، أو شيء نرغبه، أو حق نجحده، أو خوف نهابه {وَلَوْ كانَ} المشهود له {ذا قُرْبى} منا {وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ} التي أمرنا بحفظها ونهينا عن كتمها {إِنَّا إِذًا} إن كتمناها أو شيئا منها أو أدينا هذه الشّهادة على غير ما هي، أو خنّا فيها ولم نؤدها كما سمعناها من الموصي {لَمِنَ الْآثِمِينَ} (109) عند اللّه المستوجبين عقوبة شهادة الزور {فَإِنْ عُثِرَ} اطلع وظهر بعد حلفهما هذا {عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي عقوبة لظهور خيانتهما وبيان كذبهما (وكلّ من اطلع على أمر كتم عليه أو أخفى عنه قيل له عثر عليه {فَآخَرانِ} أي شاهدان من أولياء الميت وأقربائه {يَقُومانِ مَقامَهُما} مقام الوصيين الّذين اطلع على كذبهما في اليمين وخيانتهما فيما أوصاهما به الميت أو أشهدهما على ما أوصى به، وهؤلاء لا يكونان إلا {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أي جنى عليهم من أهل الميت وعشيرته وأقربائه {الْأَوْلَيانِ} بالميت في غيرهما الأحقان بإرثه {فَيُقْسِمانِ} هذان المختصان بإرث الميت، ويجب أن يراعى فيهم الأقرب فالأقرب، لأن اللّه تعالى وصفهما بالأولوية {بِاللَّهِ} يحلفان به جل جلاله في الزمان والمكان والصّفة المذكورة آنفا وبتعظيم اليمين بشيء من صفات اللّه وكتبه وبحضور جماعة بعد الصّلاة، وحضور رؤساء الدين كما مر في الشّاهدين الأولين، لأن اللّه تعالى قال: {يَقُومانِ مَقامَهُما} أي بكل ما هو مطلوب في الشّاهدين الأولين يطلب في هذين، ثم يزيدان في حلفهما ثلاثة شروط أخر في صيغة الحلف علاوة على الشّروط المارة، وهي ما ذكرها اللّه بقوله عز قوله: {لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما} أي أعدل من شهادة الوصيين والشّاهدين الّذين حلفا أولا، وأيماننا نحن الوليين أصدق من أيمانهما، ويقولون أيضا {وَمَا اعْتَدَيْنا} في حلفنا هذا ولم نتجاوز الحق فيه ولم نتعد الصّدق به، ويختمون حلفهم بما قاله تعالى: {إِنَّا إِذًا} إن كنا كذبنا بحلفنا أو زدنا في قولنا أو نقصنا أو غيرنا شيئا فيه {لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)} أنفسنا وغيرنا المستحقين عقاب اللّه للكاذب المعتدي المتجاوز الحق {ذلِكَ} الحكم الذي ذكرناه من رد اليمين على أولياء الميت عند الاشتباه بالوصيين بعد حلفهما {أَدْنى} أقرب وأولى {أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها} بأن يؤدوها كاملة كما سمعوها دون زيادة ولا نقص ولا تغيير ولا تبديل ولا خوف ولا خشية ولا غرض ولا عوض ولا تحوير ما كما هو الواجب على جميع الشّهود في جميع الخصومات أن يكونوا كذلك {أَوْ يَخافُوا} أي وأقرب وأولى لخوف الأوصياء والشهداء الأولين في {أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ} على أولياء الميت، كما في هذه الحادثة الآتي بيانها فيفتضحون بظهور خيانتهم ويسقطون من أنظار النّاس، كما افتضح هؤلاء في الدّنيا واستحقوا عذاب اللّه في الآخرة كما استحقاه {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أنتم أيها الأولياء والأوصياء والشّهداء، من أن تخونوا أو تكذبوا فيما عهد إليكم به أو كلفتم بيانه {وَاسْمَعُوا} ما يعظكم اللّه به، وأطيعوا أمره، ولا تخرجوا عن حدوده، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)} المتجاوزين أمره المخالفين نهيه الحائدين عن طريق الصّواب.
واعلم أن رفع {اثْنانِ} على خبر كما جرينا عليه أولى من جعله فاعلا على قول الغير إذ يحتاج إلى تقدير جملة وهي (فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان) وأولى من قراءة النّصب في شهادة، وجعل جملة (إذا حضر) ظرفا للشهادة، وجملة {حين الوصية} بدلا منه، وفي إبداله دليل على وجوب الوصية وهو كذلك حرصا على براءة الذمة فيما له وعليه، راجع الآية 8 من سورة النّساء المارة.
وخلاصة هذه الحادثة على ما روي بأن تميما الدّاري وعدي بن بدا النّصرانيين خرجا في تجارة إلى الشّام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص فمرض فكتب جميع ما عنده في كتاب وجعله بين أمتعته وأوصى تميما وعديا أن يدفعا متاعه لأهله في المدينة، ومات رحمه اللّه ففتشا متاعه فوجدا فيه إناء فضة منقوشا بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال، وغيباه، فلما رجعا إلى المدينة دفعا متاعه لأهله، ففتشوه فوجدوا الكتاب، فقال أهل الميت لهما هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؟ قالا لا، قالوا هل اتجر تجارة؟ قالا لا، قالوا هل طال مرضه فأنفق شيئا على نفسه؟ قالا لا، قالوا إنا وجدنا في متاعه كتابا فيه جميع ما كان معه، وقد فقدنا إناء فضة منقوشا بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال، قالالآندري به، فاختصموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأتى بهما فأصرّا على الإنكار، فحلفهما رسول اللّه عند المنبر بطلب الورثة فحلفا وخلى سبيلهما، لأن الكتاب بخط المتوفّى لا بخطهما، ولذلك فإن حكمه لا يسري عليهما ولا توجد بينة حاضرة غيرهما، قالوا ثم بقي ورثة الميت يتحرون على ذلك الإداء، فوجدوه بمكّة عند رجل اعترف أنه اشتراه منهما.